بيان صادر عن لؤي شبانة
المدير الإقليمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان للدول العربية
خلال زيارتي الأخيرة لليمن التقيت "مريم" ذات الـ12 ربيعاً تغرقها حيرة لم أعهدها في حياتي، حيرة تدفعها لاستقراء مستقبل يزداد غموضا فهي تستعد للزواج بعد أسابيع قليلة. مريم الطفلة ستصبح مجبرة زوجة مسؤولة عن تلبية رغبات واحتياجات زوج وأسرة، مريم تقذف بلا رحمة إلى حياة اجتماعية يصاحبها التزامات في الحديث والتصرف والتعامل مع عالم الكبار كأنها منهم وبقدراتهم وأمكانياتهن واتساع مداركهم. مريم ترمى بقسوة على مفترق طريق مع ملايين أخريات واجهن ويواجهن نفس المصير حيث يتزوجن مبكراً قبل الحصول على فرص التعليم والعمل والاستقلال الاقتصادي واستكمال النمو الجسدي والنفسي والعاطفي. ملايين من الفتيات يحاصرن في قفص محكم من التوقعات والمسؤوليات والواجبات الجسام قبل الأوان وبلا إعداد وتعليم ومهارات وقدرات تمكنهن من النجاح والاستمرار وضمان الاستدامة الصحية والمنطقية التي تحقق نجاج وفاعلية ورفاهية المجتمع والتنمية المستدامة . لا يحتمل عقلي ولا يقوى على تخيل مصير مريم وقريناتها من ضحايا الزواج المبكر وما تعانيه كل طفلة من ممارسات شبيهة وقاسية، لا أستطيع تخيل أن تستمر هذه المأساة جحيما لا يتوقف عن التهام المستقبل. الخسارة التي لا تتوقف لما يمكن أن تكون عليه مريم وغيرها إذا تحقق لهن فرصة التعلم والعمل والمساهمة في التنمية والبناء.
وفي غمرة الاحتفال باليوم الدولي للطفلة يوم 11 تشرين أول/ أكتوبر الذي أقرته الأمم المتحدة في عام 2011 اعترافا بحقوق الفتيات وبالتحديات الكبيرة التي تواجههن في هذا الكون. ماذا سنقول لمريم وغيرها في منطقتنا والعالم؟ أي حياة آمنة وفرنا لهن واي فرص وحقوق ضمنت؟
دائما أتذكر المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام 1994 الذي شكل نقطة تحول في منهج التعامل مع القضايا السكانية وخاصة المنهج الحقوقي المبني على الاستثمار في الطفلة كأحد روافع النموذج التنموي للنهوض بالمجتمعات. ولقد حققت العديد من الدول العربية تقدما في مجال السكان والتنمية ولكن لا زال الكثير من التحديات والعوائق تواجه الطفلات والمراهقات، منها الفقر وانعدام المساواة بين الجنسين والزواج المبكر وما يترتب عليه من آثار نفسية وصحية واجتماعية لا تحمد عواقبها. إن من غير المقبول أن تتزوج واحدة من بين كل 3 فتيات قبل بلوغها سن 18 عاما في الدول النامية، ومن بين كل خمس ممن يتزوجن دون ال18 واحدة دون 15 عاما. ويهدد زواج الأطفال أرواح وصحة الفتيات، ويقيد مستقبلهن. وفي كثير من الأحيان تحمل الفتيات اللاتي أجبرن على الزواج وهن مراهقات، مما يزيد خطر تعرضهن لمضاعفات الحمل أو الولادة. وتعتبر هذه المضاعفات سبباً رئيسياً فى الوفاة بين المراهقات الأكبر سناً في البلدان النامية. وتستمر معاناة الطفلة الأم في حمل أعباء لا طاقة لها بها وتكابد هموم البيت والأطفال بدلا من أن تستمع بطفولتها وتحظى بحقها في اللعب والتعلم وتحقيق طموحاتها.
وها نحن نستعد لانعقاد قمة السكان العالمية في نيروبي 12-14 نوفمبر 2019 من أجل تجديد الالتزامات الوطنية والدولية لبرنامج عمل مؤتمر السكان والتنمية الذي انطلق من القاهرة قبل 25 عاما وبمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس صندوق الأمم المتحدة للسكان تأكيدا على التزام الصندوق بدعم الدول من أجل استكمال التشريعات والقوانين وتعزيز البرامج التي تهدف إلى القضاء على كافة أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي ومن بينها زواج الأطفال، ولتقوم الدول والمجتمعات بتمكين الفتيات من خلال تزويدهن بالمعلومات والمهارات والخدمات التي يحتجن إليها ليتمتعن بالصحة ويحصلن على التعليم والأمان، بينما تساعدهن فى الإنتقال بنجاح إلى مرحلة البلوغ. كذلك يعمل صندوق الأمم المتحدة للسكان على دعم احتياجات الفتيات المتزوجات، خاصة فيما يتعلق بتنظيم الأسرة وصحة الأمهات. كما يولي صندوق الأمم المتحدة للسكان اهتماما خاصا لمكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث المعروف بالختان وهو ممارسة تشكل انتهاكا لحقوق الإنسان. ويقدر عدد الفتيات والنساء اللاتى على قيد الحياة اليوم وقد تعرضن لشكل من أشكال الختان بين 100 إلى 140 مليون في مختلف أنحاء العالم. وفى حالة استمرار الاتجاهات الحالية، ستخضع 15 مليون فتاة أخرى، بين سن 15-19 سنة، لهذه الممارسة بحلول 2030. لقد آن الأوان لكل الجهود أن تركز على الحوار المجتمعي وعلى تمكين المجتمعات للعمل بشكلٍ جماعي لإنهاء ختان الإناث وأن تستجيب لاحتياجات الصحة الجنسية والإنجابية للنساء والفتيات اللاتي يعانين من عوقب الختان.
إن الأسى يعتصرنا جميعا ونحن نشهد هذه الردة المؤسفة في جهود حماية الفتيات في منطقتنا جراء النزاعات والحروب ونحن ندق ناقوس الخطر لحجم المعاناة والانتهاكات التي تواجهها الفتيات جراء هذه الصراعات وما نجم عنها من قتل وتشريد وفقر وأزمات نفسية واجتماعية. علينا جميعا دول ومنظمات أممية ومجتمع مدني وقطاع خاص مسؤولية ضمان توفير الشروط التي تمكن الفتيات من التمتع بكل الحقوق والظروف التي تحفظ لهن كرامتهن وحقوقهن ونموهن السليم. إن الاستثمار في الفتيات والمراهقات من خلال ضمان حصولهن على التعليم وتجنيبهن الزواج المبكر واعطائهن فرص العمل اللائقة تجعل منهن مواطنات منتجات مشاركات في نهضة بلدانهن بدلا من ان يكن عبئا على المجتمع أو رهينات للقيود ومستسلمات لمصير لم يقررن بشأنه، ان الاستثمار بالفتيات يؤمن لنا مجتمعاً معافى من الأمراض والظواهر الاجتماعية السلبية.
آن الأوان لتجديد العهد وحماية مريم وكل قريناتها من كل خطر، آن الأوان لتحقيق الوعد لهن جميعا.
******
صندوق الأمم المتحدة للسكان: العمل من أجل عالم يكون فيه كل حمل مرغوبا فيه وكل ولادة آمنة، ويحقق فيه كل شاب وكل شابة إمكاناتهم